إشراقة
بين الكتابات
القوية الجميلة والكتابات الضعيفة القبيحة
الكتاباتُ
تكتسب الجمالَ والقوّةَ بالعواطف التي تتفجر من أعماق القلب، ومشاعر التَّأَلُّم
التي تُكيِّف كلاًّ من القول والفعل بمعانٍ لايكاد يقدر على التعبير عنها لسانُ
أيِّ «سحبانٍ»
وقلمُ أيّ «جاحظ»
أو أحاسيس الولاء والوفاء التي لاتقبل الوصفَ أو خواطر الحبّ التي يعجز عن الإفصاح
عنها كلُّ من عُرِف أو سيُعْرَف بأنَّه أَلْسَنُ المعاصرين.
إنَّ
مُجَرَّدَ ترتيب الحروف لتتكوَّن كلماتٍ، وتصفيفِ الكلمات لتصير جملاً وفقرات،
وإسنادِ الجمل إلى الجمل لتصبح نصًّا متكاملاً، ليس بشيء إذا تَجَرَّدَ من المعاني
المذكورة أعلاه؛ لأن النصّ الخالي منها جسدٌ بلا روح، لايمشي ولايتحرك، ولا
يُؤَدِّي دورَه في الحياة.
الكاتبُ
الذي يصدر عن الرقّة أو مشاعر الألم أو الحبّ أو الولاء أو العقيدة والرسالة، يخطّ
بقلمه ما يَهُزُّ الوجدان، ويُحَرِّك المشاعرَ، ويُلْهِب الضمائر، ويُوقِد مجامرَ
القلوب، ويُنْعِش العقول؛ بل يُوقِظ الأمل في النفوس التي فَقَدَه، ويهب الثقةَ
بالحياة لكلّ من تَمَلَّأَ من اليأس منها، وكاد يصير هيكلاً من اليأس والإحباط
حيالَ كل فرد من البشر حوله.
والكاتب
الذي يخطّ عبارةً جوفاءَ فارغةً من هذه الروح السامية، لايقرؤه إلاّ القارئ الذي
يكون نسخةً منه طبق الأصل، فُطِرَ بليدَ الحسّ، ثقيلَ الظلّ، لايعرف لِلَّطَافة
معنى، ولا لرقّة الحسّ حقيقةً؛ فلا يصبر على كتاباته الميّتة إلاّ الذين يُولَدُون
مَيِّتي الحسّ؛ لأن كتاباته كالخبز البائت، أو العدس الذي أَخْطَأَه الملحُ لدى
الطبخ، أو اللحم الذي لم يتمّ طبخه، فتنتشر منه رائحة كريهة؛ فلا يجرأ على تناوله
إلاّ فاقدُ الشعور بلذة الأطعمة الشهيّة.
الكتاباتُ
من النوع الأوّل مُتَّصِلةُ الحياة والحرارة والانتعاش، كلما يقرؤها القارئَ يَتكَهْرَب
ويهتزّ. إنّها لاتموت على مرّ العصور وكرّ الدهور؛ لأنّها تتمتّع بالحياة التي
يموت لديها الموتُ .
الكتابات التي تتكوّن من الألفاظ
الميتة التي لامسحةَ عليها من إشراقة الفكر، وبسمة الأمل، وصحة الهدف، وسموّ
الغاية، وعاطفة الحب، ومشاعر الولاء والانتماء الإيجابي، ورقّة الشعور بالخسارة،
ودقّة التألم لمشكلات الحياة ومعاناة الناس؛ كتابات جرداء من الجمال، لا تسترعي
انتباهًا، ولا تستقطب اهتمام القارئ المنشود الذي يُفَرِّق بين الغثّ والسمين
والربح والخسارة.
الهيكل
التركيبي للكلمات إذا تَجَرَّدَ من روح الأفكار المُشْرِقَة المُلْهِبَة، كالهيكل
الحيوانيّ إذا تَجَرَّدَ من الروح، يَفْسُد ويَعْفَن، فضلاً عن أن ينفع ويُعْطِي
رَيْعًا، هذا الهيكلُ الحيواني يعود مهملاً جامدًا باطلاً إذا خلا من الروح، كذلك
الهيكل التركيبيّ للألفاظ الذي يُعْرَف بـ«العبارة»
أو «النصّ»
يأتي فاسدًا مُفْسِدًا قاتلاً للوقت، مُضِيعًا للفرصة الثمينة لدى القارئ، بل
وربما مُدَمِّرًا لعقيدته وتَوَجُّهَاته الصحيحة إذا عَرِيَ من الأفكار
الإيجابيّة.
كثرتِ
اليوم الكتاباتُ الجرداءُ من مسحة الجمال ومُقَوِّمَات القوة التي تهب الحياة،
وتحيي المَوَات؛ فهي لاتُثْرِي القارئ، ولا تُزَوِّده بفائدة، تلمع ولا تنفع، تجمل
في الظاهر وتقبح في الباطن، يستوعبها القارئ قراءةً ويصدر عنها بلا فائدة؛ فيعود
كالوليد يعبث بجانب القرطاس، ولايجني من وراء تصرّفه أيّ فائدة، سوى أن يُشْبِع
فضولَه الطفوليّ. مئاتُ الصفحاتِ يقرؤها وينتهي من القراءة صفر اليدين، لايجني
غذاءً روحيًّا، ولا دواءً قلبيًّا، ولا شِحْنَةً فكريّة إيجابيّة تُكَهْرِب عقلَه
وقلبَه بهمّة وطموح، أو جراءة ومروءة، أو اندفاع إلى الخير واحتراز من الشرّ، أو
حرص على المواساة، أو رغبة في تسجيل هدف في سباق على دروب الخدمة الإنسانيّة،
تُثْبِت اسمَه في جبين التاريخ.
الكتاباتُ الهامدة الفاقدة للحياة أضاعت على
القارئ كثيرًا من فُرَصِه الثمينة، وأفْسَدَتْ على الكثيرِ من القراء ذوقَهم؛
فصاروا لايرغبون في الكتابات الحيّة المُلْتَهِبَة المُلْهِبَة التي تُزَوِّدهم
برصيد ثرّ من القوة والحياة، وتجعلهم يثقون بالحياة حتى في أحطِّ درجات اليأس
وأقسى لحظات القنوط. الكتاباتُ الميّتةُ التي تتركّب من الكلمات الجوفاء التي
تُحَوِّل القارئ فاسد الذوق، كلُّ من يُنْتِجُها يرتكب ذنبًا لا يُغْتَفَر؛ لأنه
يجعله – القارئَ – يكره
الطَّيِّبَ الصالحَ من الكتابات التي تخلق جيلاً يقوم بما ينفع الناسَ فيمكث في
الأرض، أي الكتابات البنّاءة الإيجابيّة التي يقرؤها القارئ فَيَتَخَرَّجُ إنسانًا
منشودًا لإصلاح المجتمع الإنسانيّ، وعمارة الأرض، وإسعاد الإنسان، والتوجّه بخلق
الله إلى الله، وإخراج الإنسان من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا
إلى سعتها، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.. يَتَخَرَّجُ إنسانًا يقوم بما
يُرْضِي اللهَ، ويُرْضِي ضميرَه هو، ويُكْسِبه الفضيلةَ بين الناس، ويُحَبِّبه
إليهم؛ حيث يوقظ فيه الشعورَ بالمسؤوليّة، وروحَ العمل والنشاط، ويدفعه إلى السعي
المتصل على درب الخير والصلاح وكلِّ ما يُسْعِد الإنسانيَّةَ بكل معاني السعادة.
فكلُّ
الكتابات التي تُلْهِي الإنسانَ –
القارئَ –
عن هذه الأهداف السامية والغايات النبيلة، هي كتابات فارغة سلبيّة، كلُّ من
يُنْتِجُها، يساهم في هدم الإنسان وسلبه ما يعنيه في الدنيا والآخرة؛ لأنّها – الكتابات السلبيّة الفارغة – تجعل القارئَ يضيع في تيه
اللافائدة، والإنسانُ لم يُخْلَق حَيَوَانًا عبثيًّا لا نَافِعًا، وإنما خُلِقَ
أكرمَ المخلوقات كلّها، فعارٌ عليه أن يَتَحَوَّل لا فائديًّا، يُضِيع أغلى مالديه
من ثروة الوقت وفرصة العمر، على حين إنه مُحَاسَبٌ لدى الله يوم القيامة على هذه
الثروة التي لا تَعْدِلُها ثروةٌ في الحياة، وعلى هذه الفرصة التي لاشيءَ أغلى
منها في الكون.
الكتاباتُ
الباردةُ المُلْهِيَة عن الأهداف التي تعني الإنسانَ، كتاباتٌ خرقاء لاتنفع؛
ولكنّها تضرّ. لا تنفع لأنّها لا يَصْدُرُ عنها القارئ بزاد يفيد فيما يعينه في
الدنيا أو الآخرة، وتضرّ لأنّها تقتل وقتَه وتضيع فرصة عمره في جانب، وتُفْسِد
ذوقَه في جانب آخر؛ فيعود لا تُعْجِبه الكتابات الطيّبة الإيجابيّة، وإنّما
تُسْكِره الكتابات الخبيثة السلبيّة التي تكون حلوة الظاهر ومُرَّة الباطن.
كم
من كتابات سَحَرَتْني بظاهر ألفاظها وجمال تركيبها، و دعتني أن أقرأها؛ لأنها
فتنتني بنصّها المحبوك وتعبيرها الرائع؛ لكني انتهيتُ منها فلم أَصْدُرْ عنها بشيء
أَحْسَبُه عِوَضًا عما فاتني من الأعمال الثمينة التي انصرفتُ عنها إليها،
فاعتبرتُ كاتبَها كالشيطان الذي يُغْوِي الإنسانَ بسحر تدبيره وحيل تضليله،
ويُزَيِّن له فعلَ المُنْكَرَات وارتكابَ الذنوب، وعندما تلحقه الخسارةُ من ذلك
يقول له: إني بريء منك، فإني لم أصنع شيئًا سوى أن دعوتُك فاَسْتَجَبْتَ لي فلا
تَلُمْنِي ولُمْ نفسَك.
مشاعرُ
الحبّ أو الألم الإيجابيّ أو العقيدة الحقة والولاء الصادق والمواساة الإنسانية هي
التي تُلْهِم الأفكارَ التي تُضْفِي على الكتابات مسحةَ الجمال الخلاّب، وشحنة
الحرارة التي لاتنطفئ على اختلاف المناخات والطقوس، وهي التي تُكْسِبُها القيمةَ
الحقيقيّةَ ذاتَ الحياة الدائمة؛ فهي مصدر الجمال الأصيل والقوة الحقيقيّة في
الكتابات التي لاتموت على مرّ الدهور وكرّ العصور.
إذا
شعرتَ بعد صدورك عن قراءة كتابة ما بهذه المعاني اللطاف والشحنةِ النفسيّةِ الإيمانيّةِ
الغلاّبةِ التي تتركك لاتصبر عن العمل والتحرك والسعي المتواصل على درب الخير،
فاعلم أنها كتابة قويّة جميلة في معنى الكلمة، وإذا صدرتَ عن قراءة كتابة ببرودة
في الهمة، وفتور في العمل، وشعور بلا فائدة، وأسف على ضياع الوقت، وإهمال لوظيفة
ملحة، وإخلال بمسؤوليّة لازمة، فاعلم أنها كتابة ضعيفة قبيحة سلبيّة بكل معاني
الكلمة.
القارئ
الأغرّ الذي لم يختمر عقله وفكره يتسارع إلى كل عبارة لامعة، ونصّ خلاّب، وكتابة
جميلة الظاهر، فيصدر عن قراءتها بخسارة فادحة، ولاينتبه للخسارة إلاّ بعدما
تلحقها؛ فالواجب عليه أن يختار لقراءته كتابات ايجابيّة جميلة الظاهر، طيبة
الباطن، تنير داخله، وتضيئ ضميره، وتحرك مشاعره، وتلهمه أفكارًا إيجابية بنّاءة.
( تحريرًا في
الساعة 11:30 من صباح يوم السبت : 27/ذو الحجة 1431هـ الموافق
4/ ديسمبر 2010م) .
أبو أسامة نور
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، محرم – صفر 1432 هـ = ديسمبر 2010م – يناير 2011م ، العدد :1-2 ، السنة : 35